الجمعة، 1 سبتمبر 2006

نجيب محفوظ في الواجهة

يعتبر الأديب الكبير نجيب محفوظ من قمم الأدب في مصر بل في العالم العربي. ولد سنة 1912 بحي من أحياء القاهرة العتيقة، وألف أكثر من خمسين رواية من أشهرها الثلاتية، وقد صدرت في ثلاثة عناوين. وتقلد عدة مناصب ثقافية .
ومن الصعب التحدث عن الرواية العربية دون أن نذكر نجيب محفوظ الذي شكل مدرسة لازالت لحد الساعة تحمل بصمات طيبة في وجدان المجتمع العربي وتؤسس لخط في الرواية العربية .
رغم أن نجيب محفوظ قد إنخرط في عدة أعمال إلا أن العمل الذي إلتهم حياته هو الكتابة، فقد كتب في مجلة الرسالة قصصا صغيرة، وأثناء ذلك كان يبحث عن مقومات فنه ويشق طريقه فيه بخطوات ثابتة .
يقول عبد الحميد عقار رئيس إتحاد كتاب المغرب: "نجيب محفوظ كتب الرواية من موقع الرافض الواعي المتحكم في أسلوب الكتابة وفي تقنياتها وأيضا الممتلك لوعي جمالي ووعي إعتقادي، شديد التفرد وشديد التميز.. قيمة فكرية أدبية وإنسانية كبرى. وفقدانه خسارة عظمى للأدب العربي والأدب الإنساني، ويبقى عزائنا الوحيد والأساسي هو دخيرته الروائية المتميزة المتفردة والمتجددة".
نجيب محفوظ الراحل جسدا الخالد فكرا. تقول عنه الدكتورة ميسا هاور أستاذة الأدب العربي في كلية أوشن في نيو جلسي: "نجيب محفوظ أعطى الفرصة للصوت العربي أن يسمع، هذا وسام على كل عربي. أن محفوظ أعطى فحوة للعالم الغربي أن هناك أصوات روائية رائعة لابد وأن تقرأ وأن تترجم... وهناك تيار لمعرفة الأكثر عن العالم العربي الإسلامي والمصري بالأخص. وأعطى إحترام بالفعل للعالم العربي حين قرأوا محفوظ للشخصية العربية الإسلامية ومفاهيم الحضارة العربية. نجيب محفوظ ككاتب إستطاع أن يوصل مابين القارئ العادي وليس القارئ المثقف. بمعنى أن أسلوب محفوظ كان متميز في أنه تحدث إلى العامل والفلاح والمزارع وهكذا ولكن بأسلوب مثقف ولكن بأسلوب يستطيع به أن يروي أمامه نماذج من الحياة وأنماط من البشر، لم تتح لنا هذه الفرصة من قبل، فقد كانت الكتابة كلها بالفصحى وأستطيع أن نقول معقدة لغويا بالنسبة لعامة الشعب، ولكنه إستطاع أن يرسم صورة رائعة للمجتمع المصري والعربي، ويطرح أسئلة للبشر تجعلهم يتسائلون عن حياتهم اليومية".
وأعرب العاهل المغربي صاحب الجلالة الملك محمد السادس في برقية تعزية إلى الرئيس المصري محمد حسني مبارك ومن خلاله لأسرة الفقيد والشعب المصري الشقيق عن أحر تعازي جلالته ومواساته في وفاة أحد أعلام مصر والأمة العربية، الذين حظوا بالتألق على المستوى العالمي في مجال الإبداع الروائي وأغنوا المكتبة العربية بعطائهم المتميز، متوجا مسيرته الحافلة بإستحقاق جائزة نوبل العالمية في الآداب .
هذا وقد أشاد الرئيس الفرنسي جاك شيراك بالأديب المصري واصفا إياه بأنه من كبار أحباء العالم ورجل سلام، وذكر بأن فرنسا كانت من الدول الأولى التي ميزت موهبته الكبيرة وترجمت أعماله، ولقيت على الفور نجاحا مازال متواصلا لدى الجمهور الفرنسي والفرونكفوني .
وأعرب الرئيس الأمريكي جورج بوش في بيان من البيت الأبيض واصفا الأديب المصري بأنه كان أديبا وفنانا إستثنائيا وأن أعماله ستعرف مصره الحبيبة إلى الأمريكيين وقراء كثيرين حول العالم لعديد من الأجيال .
ووصف مدير الدبلوماسية العامة في وزارة الخارجية البانتغون محفوظ أنه كنزا من كنوز الحضارة العالمية. فقال في بيان رسمي من البيت الأبيض: "لازم نقدم الأسى للشعب المصري.. الحمد لله مع هذه الخسارة الكبيرة فهو يعيش في الكتب وفي الروايات وفي الذكريات والكل لايعترض ويحب هذا الكاتب الأديب" .
وهكذا تميز الروائي العملاق الكبير نجيب محفوظ بجرأته على تجاوز المألوف دون أن يبعده ذلك عن قلوب وعقول قرائه على نطاق العالم بأسره. وقال رفيق عمره محمد سناوي رئيس إتحاد كتاب مصر ورئيس تحرير صحيفة الأهرام التي تصدر باللغة الإنجليزية أن أكبر تكريم جنائزي في مصر لأي فقيد مرموق -خاصة وأن الأستاذ نجيب محفوظ حاصل على قلادة النيل- هي الجنازة العسكرية وهو طبعا يتقدم على رؤساء الوزارات في مرتبته .
ووصف سلماوي رفيق الراحل نجيب محفوظ بأن وفاته خسارة فادحة للأدب العربي والأمة العربية. وقال أيضا: "الأستاذ نجيب محفوظ خطا في الأدب خطوات كبيرة إلى الأمام ، نقل الرواية إلى آفاق جديدة تماما، جعل العالم كله ينتبه إلى قيمة الأديب العربي وإلى قيمة الرواية العربية، لدرجة أن هناك من النقاد و الدارسين يتحدثون عن الهوية العربية كجنس أدبي مستقل عن الرواية أسوة بالرواية الفرنسية أو الروسية" .
أما الكاتب اللبناني جواد صيداوي فيرى أن روايات محفوظ أبعد عن الساحة التي كتب منها. حيث قال: "نجيب محفوظ عندما نتناول الحياة الإجتماعية أو العلاقات الإجتماعية أو صيغة المجتمع المصري في بعض أحياء القاهرة، فيتناولها بشكل ظاهري فلان وفلان والحي الفلاني والمكان الفلاني، ولكنه غاص في أعماق شخصياته حتى خرج من ذلك بنماذج إنسانية أبعد من المجتمع المحلي الذي تكلم عنه .
ويشير الكاتب والناقد اللبناني حمزة عبود أن محفوظ تمرد على الرومانسية العربية وتعبيرات الأديولوجية للواقع وقال: "واقعية نجيب محفوظ بقدر ما هي نص مستقل يعني لايعكف الواقع بصورة آلية بقدر ما هو متصل بهذا الواقع يعني هي إيقاعات عميقة للواقع بتشد بأعمال محفوظ وليس الحركة السطحية للواقع أو الظواهر المباشرة. نجيب محفوظ يقدر يلقط واقعيته بالإيقاعات العميقة لمواقع مرجوة" .
ويشيد الأديب المغربي محمد المسناوي أن مساهمة نجيب محفوظ في مجال السينما تظاهي ماخلفه في عالم الرواية بشكل لايجسد الواقع الشعبي في مصر فحسب بل وأيضا في مختلف المجتمعات العربية. وقال: "كان له تأثير في صياغة نوع من الألفة للمشاهد العربي بعضه إلى بعض، ربما بنفس الدور الذي لعبته بشئ ما أم كلثوم على صعيد الأغنية، لعبه محفوظ سنمائيا بالنسبة للثقافة العربية" .
وفضلا عن المكانة البارزة للراحل نجيب محفوظ في مجال الأدب يوضح المسناوي سر إعجابه بجانب محدد من شخصية الأديب الراحل قائلا: "والذي يثيرني أكثر في هذا الروائي هو أنه في كتابته للسيناريو لم يقتصر على مايفكره أو مايمليه هو بل إشتغل على روايات لإحسان عبد القدوس ليوسف السباعي..، لم يجد ضيرا في أن يشتغل غلى روايات غيره متجاوزا في ذلك مايمكن أن يسميه الكاتب كبريائه الخاصة.. نجيب محفوظ كاتب كبير الحاصل على جائزة نوبل لم يجد أي مشكل في الإشتغال على عمل غيره وتحويلها إلى السينما، كالثلاثية التي نقلها حسن الإمام.. ويمكن إعتبارها الآن من أهم الأفلام العربية " .
وقال نصر الدين النشاشي الكاتب والصحافي الفلسطيني وصديق الراحل إن مايميز محفوظ هو تواضعه حيث قال: "معروف عنه تواضعه الشديد وإنسانيته التي لاحدود لها وكان معروف في محل قهوى أو مقهى يرح لها بإستمرار ويجلس فيها" وأضاف بأن أعمال محفوظ تميزت بالإبعاد الفكري وشكلت مفاجئات أدبية .
معان بشور الأمين العام للمؤتمر القومي السابق في هذه الشهادة: {لقد عهد على مصر وعلى مجتمعها ودقائق الحياة فيها من خلال ثلاثية نجيب محفوظ ومن خلال هذه البراعة في نقل المشاهد إلى كلمات متدفقة، لقد كان لهذا الرجل وجدانا} .
وقد توقف نجيب محفوظ عن الكتابة نظرا لطعنة تعرض لها عام 1994، إلا أنه في السنوات الثلاثة الأخيرة كان يكتب قصصا قصيرة، أطلق عليها أحلام فترة النقاهة، وكان آخر ماكتب الأديب وأقل من 48 ساعة من وفاته الحلم رقم 206 الذي أرسله محفوظ إلى مجلة نصف الدنيا .
أحمد الشهاوي مدير تحرير مجلة نصف الدنيا وآخر أعمال الأديب الكبير نجيب محفوظ: {رأيتني أعد المائدة والمدونة في الحجرة المجاورة، لتأتيني أصواتهم، أصوات أمي وأخواني وأخواتي، وفي الإنتظار ساقني النوم ثم صحوت فاقدا الصبر، وهرعت إلى الحجرة المجاورة لأدعوعهم فوجتها خالية تماما غارقة في الصمت، وتولني الفزع دقيقة ثم إستيقضت ذاكرتي فذكرت أنهم جميعا رحلوا إلى جوار ربهم وأني شيعت جنازتهم واحدا بعد الآخر} .
نجيب محفوظ يقول عنه جمال الغطاني وهو الذي رافقه وعاش بالقرب منه: "نجيب محفوظ أولا بالنسبة لي الحديث عنه. أولا كأديب هو مؤسس الرواية العربية الحديثة بلا منازع، وهو الكاتب الروائي العربي.. لم يكف عن الكتابة حتى سكوته في مرضه خلال الشهرين والنصف الأخيرتين، إنتاجه متنوع وعزير.. ولم يكن بمفرده. كان هناك أيضا كتاب من المغرب الكبير المغرب، وتونس، والجزائر.. وكل من كان يجيء إلى القاهرة كان يقصد مقاهي محفوظ المعروفة، كتب عنه طه حسين وسيد قطب كبار النقاد في الأربعنات، هناك من لا يعرف الروايات لكنه عرف محفوظ في الروايات السنمائية" .
وذكر محمد سلماوي أن آخر كلمات نجيب محفوظ كانت إبتهالات ردد فيها كلمة يارب، ويشير سلماوي إلى أن محفوظ كان يؤكد دوما على أهمية الإيمان بالله ويقول: {إن الإيمان هو الذي يعطي لوجود معنى وبدونه لامعنى للوجود ولامعنى للقيم والبديل هو العبث وهو أن لامعنى} .
وقد إعتاد محفوظ الصلاة في مسجد الإمام الحسين الشهير في القاهرة. وقد شيعت الجنازة منه بناء على وصيته، ومن هذا المسجد إستلهم العديد من الروايات والقصص والشخصيات .
في سنة 1988 منح الأديب العربي الكبير نجيب محفوظ جائزة نوبل في الآداب، ومايثلج الصدر أن هذه الجائزة قد منحت عن إبداع بالعربية وليس بلغة أخرى، وإن الذين منحوها ليسوا من أهل الضاد بل من قراء اللغات الأوربية، وهذا يعني أن أدبنا يتذوق لدى الآخرين، فمبارك لكل عربي، وتحية لأولئك الذين نقلوا إبداعنا إلى الآخرين .
نجيب محفوظ أثرى الخزانة العربية وأثرى أيضا مخيلة القارئ العربي، ورغم وفاته فهو لازال حيا بما تركه من كنوز رائعة .
رحم الله فقيد الأدب والثقافة العربية. وإنا لله وإنا إليه راجعون .