الجمعة، 25 أغسطس 2006

المأساة

كانت عقاريب الساعة تقترب من السادسة صباحا، وجموع العمال والمستخدمين بدأت تتقاطر إلى سوق المدينة فيما راحت أصوات الباعة المتجولين ترتفع بالصياح معلنة عن بضاعتها فتختلط في لغط وفوضى. عربات الباعة القديمة متراصة مع بعضها بغير نظام وتفوح منها رائحة الفطائر والأطعمة الرخيصة. وفي زاوية ينتحي بائع اللبن، على حين إقتعدت أعرابية الأرض أمام دكان مغلق وهي ترتب المقدنوس والمعدنوس والفلافل وثميرات الحامض. يزداد النشاط وتنتعش الحركة في السوق.. وشيئا فشيئا تشرق الشمس وتغمر بنورها ودفئها الجميع .
تعودت كل صباح في هذا الصيف الحار أن أجلس عند صديق لي في السوق. وما أثار إنتباهي دائما هو أن أرى صبيا لايتجاوز العاشرة من العمر، يحمل صندوقا صغيرا من الكرتون مليئا بعلب السجائر والعلك. وكان كعادته يأتي مع تباشير الصباح، وما أن يرى جمهرة من الناس حتى يرفع صوته بالمنادات ((سجائر هنا.. سجائر هنا.. علك.. علك)) وأحيانا بالكاد يتسلل صوته الرفيع إلى سمعي من بين همهمات الجموع وأصواتهم الخشنة. طالما كنت أتأمله بإشفاق. كان يرتدي ((جاكيت)) تصل تحت ركبتيه بقليل وتتنوع فيها رقع ملونة، ناهيك عن طبقة من الوسخ أضفت عليه لونا غريبا يثير القرف. كانت ملامحه تدل على التعب والحرمان ويخاله الرائي متشردا أو متسولا. ولكنني كلما رأيته أتعجب من ذلك التشابه الغريب بين سماته وصديق لي درس معي مرحلة الثانوية جن فجأة في العام الماضي، بسبب رسوبه في إمتحانات البكالوريا، مما حداني يوما أن أستفسر منه لأجد الخبر اليقين .
ناديته من بعيد فإذا به يأتني مسرعا ظانا منه بأني سأبتاع من بضاعته شيئا.
- سجائر.. علك.. سجائر.. سجائر.ماذا تريد أخي؟
- ما إسمك ياعزيزي؟
لم يجب الصبي للوهلة الأولى بل نظر إلي مستنكرا ثم أجاب:
- لماذا؟
- ألست أخا مصطفى..؟
وحالما ذكرت هذا الإسم إنبسطت أسارره وقال وهو يعبث بعلب السجائر..
- أجل إنه أخي. هل تعرفه؟
- لقد كان زميلي أيام الدراسة بالثانوية. قل لي ماذا حل به..؟
أطرق الصبي برهة، وبعد صمت قصير أجاب بأسى: جن..
لم يكن قوله مفاجئا لي لأني كنت أعلم ذلك بعد أن رأيت ((مصطفى)) ما آل عليه حاله، فهو يجوب الشوارع حافيا يرتدي أسمالا بالية وقد أرسل شعره ويبدو دائم الذهول ولايكف عن هز رأسه بإستمرار ويتكلم كلاما غير مفهوم .
تابع الصبي حديثه ببرائة وهو لايزال يعبث بعلب السجائر: .. ولكن ألا تعلم بأن أخي الكبير قد أصابه الجنون قبل مصطفى !!؟
- ماذا تقول سألته مذهولا.
- هكذا يا أخي.
- إن أخي الكبير مجنون أيضا...
لشدة ما آلمني كل ذلك، وجعلت أتسائل في أعماق ترى ماذنب هؤلاء المساكين. تناولت منه علبة علك ثم أجلسته على كرسي، ثم عدت أسأله: ووالدك؟
- لا أدري. أنا لا أعرفه. أمي تقول بانه مات قبل مولدي بأيام.
- ولكن من يعيلكم؟
أمي خادمة عند الجيران. وأنا أبيع السجائر والعلك في الصباح، وبعد الظهر أشتغل عند خالي الإسكافي. إن أمي تبكي طوال الليل أمام صورة أختي التي ماتت بالشلل قبل أسبوع. أتدري..؟ لقد كانت تساعدنا ببعض النقود من عملها كغسالة.. لقد تعبت من التجول وبيع السجائر، ولكنني سأشتغل في المصنع عندما أكبر وأحصل على نقود كثيرة أعطيها لأمي لكي............
لم أتمالك نفسي عندها وماشعرت إلا والدموع تملأ مآقي والألم يعتصر فؤادي. فغر الصبي فاه مستغربا وبدا وكأنه لايفهم علة حزني المفاجئ !! فتركني وتابع سيره وهو ينادي ((علك.. سجائر.. سجائر..)). وبقيت نظراتي تلاحقه وهو يشق طريقه في الزحام بجسمه الغض، وصوته يتلاشى رويدا.. رويد....

الجمعة، 18 أغسطس 2006

والعصر إن بنات مدينتي لفي خسر

تبدو الأرض فسيحة رائعة من هذا المكان وقد تشكل الربيع بشكل جميل إلى أن تناطح مع السحاب. سكون المقهى يغري بفنجان قهوى تذيب روحي بين الجرعات.. وتترك ناظري يتمشى مع الخضرة إلى الأفق... أتطلع إلى الوجوه من حولي، أبحث عن فتاة عن طفل، عن فراشة، .. أبحث عن نظرة، عن إبتسامة، عن كلمة جميلة، .. في الشارع أمامي رجال ونساء ومن كل الأصناف.. مايهمني الآن، أن أشرب قهوتي، وأقرأ رواية بعيدا عن فضول الناس.. وفي غفلة عن السكون، داهم رجل صمت المقهى. فجلس غير بعيد عني مسافة كرسيين، قبل أن تلتحق به بنتان .
صديقتي"ثريا" التي حدتتك عنها، أصرت على أن تأتي معي، فقبلت، لم تستطع المسكينة أن تخلص نفسها من حبائل العزلة.. إيه! قلت إنك ستأتي لها برجل! أنظر بنفسك كم هي جميلة، للإشارة فهي غنية الوجدان، ولا تختزن في قلبها غير الأحاسيس المرهفة، خانها حبيبها الأول، بعد أن إستاق منها أنوثتها، فرحل بعيدا .
لاأستطيع عزيزتي أن آتيها بأي كان ففي كل رجل ثعلبا! .
أخوك مثلا! يبدو ظريفا، وظرافته وحدها تستطيع تدفئة هذا الجسد! أليس كذلك؟
قلت لك أنني لاأستطيع أن آتيها بأحد! فأخي لا يهتم إلا بالبقر من بنات المدينة، فهو يحب اللحم، الشحم، والريق الدسم ..
عدت للرواية والفنجان وتهت.
سأنصرف، قالت، الكل سيغيب عن بيتنا هذه الليلة، لاتنسى أن تأتيني بشهوتك، إركب سطح الجيران أفضل، فالعيون في كل مكان، ستجد عندي في الغرفة الثانية بعد المطبخ كل شيء مشتهى، سأفترش لك نعومتي، وستتوسد طراودة نهدي، لأخلصك بعد قبلة أو قبلتين من الذي قهر النساء .
ضربته جهة الأسفل بعد أن عاينت أن ليست عيون ترصد حركتها. فأخدت يد "ثريا" وإنصرفتا. لحظتئد جائني النادل بفنجان ثان وهمس "والعصر إن بنات مدينتي لفي خسر" . أومأت له بالإيجاب قبل أن ينصرف الرجل بعدهن... الضباب يحاول السيطرة على العالم، وهو يحجب عني الخضرة البعيدة .
الرذيلة والخيانة، تزكم الأنوف في شوارع المدينة.. وبناتها يعرضن ممتلكاتهن بشكل أو بآخر، هذا هو عصر التحرر كما نزعم! فماذا أستطيع ان أفعل؟ مادمت لاحول لي ولاقوة.

الجمعة، 11 أغسطس 2006

حالات التيه

في المساء عبر طريق الرميلة وقفت في منتصف الأوطوبيس رقم 2، مسندا ظهري إلى زجاجة الإغاثة، لأول مرة أكتشف المدينة ليلا.. ذوائب تتراقص.. تقترب لتتقاطع.. فتبتعد لتختفي.. هنا كل شئ شاعري، الجمال في كل ماتقع عليه الأحداق: المعمار.. الطرقات.. الحدائق.. البشر.. حتى القمامة لا تخلو من بهاء! هذه هي المدينة.
إكتشفت الأمكنة، وعشقتها، وإعتدت على إرتيادها في أيام معلومة، إما للمذاكرة أو للإختلاء بالنفس. ما بين باب قشيش وصومعة الكتبية، وقصر الجامعة وطريق المسافات الطوال. وحديقة السلام.. كان الزمن يسرع، وأحس به ينفلت من أصابعي مثل الزئبق!! تتملكني رغبة شديدة في العدو دون توقف، حال من يسابق ظله للتخلص منه!! ها هنا كان اللقاء.. اللقاء مع النغم الأصيل، والهموم الكبرى، وحمى السهر لإقتناء تذكرة تسمح بتناول أكلة سريعة في مقهى .
أعمد أحيانا إلى زيارة مقهى "خمس نجوم"، وأكتفي بالدخول والخروج مقلبا بصري في الزبناء، أختلس النظرات إلى نخبة من الفنانين وطلاب مثلي.
طولها الفارع، وعيناها الزرقاوان، ووجهها المعبر، وشعرها العسلي المنسدل! إبتسمت وتكلمت بالإنجليزية: "عودت عيني على رؤياك"، وإختفت في زحمة الحياة!! شعارها كان: "كن ذكيا وإكتسب".
عون مصلحة بالجامعة قلما يظهر، وإن حدث، رأيته في إحدى الزوايا متأبطا مكنسته في مشي متربص! إرتبط إسمه بقوة بيوم واحد في السنة، موسى يعني يوم الإعلان عن نتائج الإمتحانات الكتابية، إذ تناط به مهمة تعليق بياناتها، ولعل هذا ماأكسبه لقبه الشهير: "موسى دورة يونيو".
لم تمهلني المدينة حتى ألم حقيبتي.. أودعتني الحافلة ذاتها التي جئت على متنها ذات يوم، وعقب وصولي تسلمت رسالة النتيجة الهزيلة لأفكر في عام آخر جديد!! وبين دوار الحافلة والضيق المالي، خامرني شعور غريب مفاده أني تهت... ولكن في مدينتي.

الجمعة، 4 أغسطس 2006

فوق الروابي

كيف يمكن أن تشرق إبتسامة الصباح الوضاح وتنجلي، لتحل موضعها رقة الربيع، واخضرار الطبيعة.
الجو مخيف وصوت الرعد يعلن عن قدوم أمطار غزيرة، ماعادت الشمس تشرق بمحياها الوديع، وهكذا بدأت الكآبة تجتو.. برهات من السكون ترافق الظلمة.. طال العهد واستمر الذل يتجاوز الشهور. القلب يفقد عنان العزيمة خوفا من المستقبل، فلم البكاء على معالم قديمة، مادام الإنسان خلق ليواجه التحدي ويربح الرهان، وإلا فالإستسلام يعيق الإستمرار.. فمن قاوم نال ماتشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
إن مواجهة المسافات الطوال تبدأ بأول خطوة. والحكيم من يترك العامي يتشدق، وإذا تكلم هو نطق بمعنى، إذ ليس العبرة في كثرة القيل والقال.
صاحب النية يتمطى صهوة جواد أبيض، فمن كان كثير الخداع، لاشك ثعلبا ماكرا، ومن عاش عديم الحيل وصافي السريرة، لابد أنه حمل وديع سيصبح أضحية في الأعياد المجيدة من أجل البهجة والفرحة المطلقة، وبينهما ذو الوجهين. ولامبدأ له غير نهش فريسته.
وتنتهي الطريق المعبدة.. فيستعصي النوم وتعظم الخشية مما يمكن أن يخبأه المستقبل!! الخشية من إفناء بقية العمر خلف هذه الروابي.. ولن يتحقق ذلك إلا بانبلاج أسارير التناغم واليقين، وليس الشك.. وينتهي كل شيء.