الجمعة، 24 نوفمبر 2006

ظاهرة الكتابة النقدية

ظاهرة الكتابة عن الإصدارات الثقافية حديثة الصدور، أصبحت من الكثرة والشيوع بحيث إفتقد معظمها طابع الإثقان والتأني. فلا تخلوا صحيفة أو مجلة أدبية من مثل هذه المراجعات أو الإشارات السريعة التي لا تشير في الغالب إلا إلى وجهة نظر صاحبها فيما إستجابت له حواسه لما قرأ.
وقد يكون هذا بالأمر الإعتيادي والمشروع لو أن هذه الظاهرة قد إلتقت من إحدى الزوايا بالتحليل طورا وبالنقد طورا أخرى. لكنها تتم ويتسع مداها في الوقت الذي إختفت فيه التحليلات النقدية التي كنا نستأنس بها في السابق، والتي كانت أعطت للعمل العربي أبعاده ودلالته بتحليل عناصره من جميع الجوانب.
فهل لغياب العملية النقدية المتعمقة دور في إعلاء الظاهرة وإعطائها أكثر مما تستحق؟ ..
وإذا كان هذا هو الصحيح فما موقف النقاد إذن من النقد الذي لا زال يعاني من صمت أغلب الأصوات النقدية المتميزة..؟
هناك الكثير من الأدباء كتبت عن النقد الأدبي للكثير من الأعمال الأدبية جعلت الكثير من المقاييس تتغير كمشكلة موقف توفيق الحكيم. فما البديل إذن؟ ..
إننا بحاجة ملحة الآن إلى موقف نقدي أشبه بصرخة الإحتجاج العالية حفاظا على المعطيات الإبداعية. وبحاجة أيضا إلى إعادة النظر فيما هو سائد الآن من نقاد يحاولون الحصول على الإنتشار الإعلامي وهذا الأمر كان على حساب النوع في العطاء ..

الجمعة، 17 نوفمبر 2006

الإختيار العربي

هناك مسألة تحيرني، ولاشك أنها تدفع الكثيرين غيري إلى الحيرة : ما الذي يحدد الإختيار الثقافي العربي من الأمم الأخرى؟ لماذا أولى العرب كل هذا الإهتمام لأرسطو وأفلوطين في العصر العباسي بينما تجاهلوا هوميروس و أسخيلوس ويوربيديس وسوفوكليس؟ لماذا ترجموا أقاصيص من تلك التي نجد بعضها في (كليلة ودمنة) لإبن المقفع و(ألف ليلة وليلة) ولم يترجموا الإلياذة والأوديسة؟
وإذا ما إنتقلنا إلى العصر الحديث لنا أيضا أن نتساءل عن سبب إختيارات رفاعة الطهطاوي، وعن السبب الذي جعل طه حسين يتجاهل مدارس النقد الفرنسية ويكتفي بسانت بيف وتين.
لماذا إهتم طه حسين بجيرور ككاتب مسرحي بينما أغفل تشيكو وغيره.
وإننا لنشعر بالدهشة أكبر لهذا الإختيار العربي. ما الذي جعل الأدباء العرب يحصرون أنفسهم في إختيار وحيد : المحاكات ـ المدرسة ـ التأثر ـ الإستفادة من الأدب الأوربي وحسب؟
لماذا إبتعدوا أو أداروا ظهرهم تماما عن الإختيارات الأخرى؟ وهنا نصل إلى فكرة أدباء عرب مثقفون يجتمعون على خصائص الوطن وخصوصيته.
ومن يخون هذا التحديد يخون الإختيار العربي وثقافته هو.
إن الإختيار الثقافي العربي وأولوياته يتمثل في أدبائنا العرب وأدبائنا العرب يتمثلون في الإختيار العربي. دعونا نعود الآن إلى موضوعنا، ولنجعله إجابة عن السؤال التالي : لماذا لايمتلك الأدباء جرأة لإنعاش الإختيار الثقافي العربي. عندما يكون الأديب العربي حرا في إختياره..؟

الجمعة، 10 نوفمبر 2006

رياح ((الوعي الزائف))

ما أكثر اللحظات التي يشعر فيها الكاتب بالعجز؟
أي كاتب؟
وأي عجز؟
* * *
من يكتفي بوصف مايجري من أحداث وأخبار في حدود حلقة مصغرة، ليست لديه مشكلة، حتى ولو قيل له إن الحلقة المصغرة واضحة الصورة وأن الصورة الناجحة هي التي تعتمد على ((زاوية)) مانسميها نحن بوجهة نظر .
ومن يكتفي برؤية الماضي، كأنه في زيارة قصيرة أو طويلة لمتحف آثار تاريخي أو طبيعي أو سياسي أو إجتماعي أو ثقافي، هو الآخر ليست لديه المشكلة، حتى ولو قيل له إن التاريخ هو الماضي والحاضر هو المستقبل، وأن ((رؤية)) الماضي تدل على موقعك في الحاضر وموقفك من المستقبل .
ومن يكتفي، أصلا بالقول إن هذا الحديث أو ذاك لا يخصه، فهو ليس سياسيا إذا كان للحدث علاقة بالسياسة، وهو ليس مثقفا إذا كان للحدث علاقة بالثقافة، وهو ليس إجتماعيا إذا كان للحدث علاقة بالمجتمع. إنه، هو أيضا، ليست لديه مشكلة، حتى ولو قيل له إن الحواجز وهمية بين السياسة والثقافة والمجتمع، وأن هدفك الثقافي يدل على مرماك السياسي.
* * *
هذا ((الكاتب)) لايعجز عن فعل الكتابة، ولكن الأخيرة حين تنفصل فيها الذات عن الموضوع والذات عن الذات، والموضوع عن الموضوع.
تصبح الكتابة من هذا النوع، كبناء البيت للآخرين، أهم ما فيه الحصول على الأجرة، وليس الجمال أو راحة السكان. إنها الكتابة المجانية، وصاحبها لا يشعر مطلقا بالعجزـ طالما أنه ((يجيد)) الكتابة، أي طالما ((يحترفها)).
إنه لا ينشغل بمصادر الكتابة، ولا إلى أين تؤول، فهو يستطيع أن يكتب عن الماء والنار بالدرجة ذاتها من ((الموهبة)) و ((الخبرة)) و ((الثقافة)).
هذا النوع من الكتابة يجد آلاف المبررات ((للعزلة)) والتعالي على المشكلات ((العابرة)) كمشكلات الحياة اليومية للإنسان ((العادي)).
وقد لايعي غالبا -أو يعي مع وقف التنفيد- أن الكتابة تحت أي عنوان (أو تخصص) لها جذور، ولها وظائف، ولها أزمات وأحلام وإحباطات، وقد يعرف صاحبها ((العجز)) أو ((الفرح)).. فالكاتب الحقيقي، يدرك أن الكتابة شبكة من الوعي أو اللاوعي، وأن الصراع في معناه الحقيقي النهائي هو مواجهة الكاتب للوعي الزائف.
عندما يرى الكاتب نفسه طرفا في المواجهة، قد يشعر أحيانا بالعجز.
لماذا الشعور بالعجز؟
لأن ((مقاومة الوعي)) تمضي في أرض لا تملكها، أما الوعي الزائف، فهو يترسخ يوما بعد يوم في أرض خصبة.

الجمعة، 3 نوفمبر 2006

خطأ الحكم بالمظاهر

كنا أربعة من طلاب الثانوية نستقل عربية أجرة، ذات يوم حار من أيام صيف مراكش القائض، عندما أشار أحد المارة للسائق الذي توقف وفتح باب السيارة ليدلف للداخل، ويأخد مكانه بجانبنا، رجل من العامة رث الثياب باليها، نحيل الجسم، معروق اليدين، تفوح من قميصه رائحة التراب المختلط بالعرق، أما العمامة التي يلبسها، فقد أكل عليها الدهر وشرب وطمس الزمن لونها الأصلي فاستحالت إلى لون أحمر داكن، ولم يكن حذاؤه بأحسن حال.
ولولا أن العربة كانت أجرة عامة، لكان وجود هذا الرجل غريبا بيننا، لاسيما وقد كان الزملاء في ملابس أوربية أنيقة تفوح منها روائح العطور الراقية.. إستأنفت السيارة سيرها وواصلنا ما إنقطع من حديثنا، وكان شتاتا من السياسة والفلسفة والأدب، فمن الكلاسيكية إلى وجود الله مرورا بآخر مستجدات عالم الإنترنت !.
وقد ظل رفيقنا-كما كان متوقعا- صامتا، إذ لم يكن في مقدوره أن يشارك في مثل هذه الأحاديث والتي بدت له-كما يخيل لي- ألغزا معقدة وطلاسيم صعبة الفهم، ولم أستطع والحق يقال أن أحول دون شعور طاغ بالشفقة تملكني أزاء الرجل. وتساءلت في نفسي، كم هو محروم هذا الإنسان، وهو بعيد هكذا عن عوالمنا الجميلة المزدانة بما تلقيناه وإكتسبناه من ضروب الثقافة والفكر في مجالات المعرفة الممنهجة في تعليمنا والترات الإنساني.. ترى كيف يحسب مثل هذا الرجل معاصرا في القرن الحادي والعشرين ، وهو يعيش على هوامشه، كيف يتفق ذلك وهو لم يسمع بسارتر وديكارت ولم يقرأ عن إبن خلدون ولم يقتني ديوانا للمتنبي؟.
وبينما أنا غارق في تأملاتي تلك، إذا بي أنتبه فجأة على صوت صرير، وإرتطام جسم بأرضية الشارع الصلبة، وتوقفت السيارة بغثة لنرى مشهدا مزعجا.. كانت السيارة التي تتقدمنا قد أنحرفت عن الطريق بعد أن صدمت بعنف صبيا صغيرا هوى إلى الأرض والدماء تسيل من رأسه، وعلى الجانب الآخر من الشارع، وقفت إمرأة وبنت صغيرة تولولان وتصرخان في هستريا وعصبية. هبطنا من السيارة بسرعة لنكتشف أن الصبي حاول عبور الشارع قبل أمه وأخته، فدهسته السيارة المسرعة.
تجمع أربعتنا حول الصبي الملقى على الأرض، ومرت لحظات رهيبة حرنا فيها في أمرنا، وكيف نتصرف.. كان الفعل الدرامي مفاجأة لنا، وثم في سرعة ولم يكن بمسرح الحادث سوانا، وظللنا نتبادل النظرات الحيرى، دون أن نعرف ماذا نفعل، وصراخ الأم يمزق الفضاء من حولنا، كما أن مشهد الدماء الغزيرة وهي تنزف من الصبي كان مشهدا مروعا بالنسبة لنا.. وتبينا أنها المرة الأولى التي نجد فيها أنفسنا وجها لوجه مع موقف صعب كهذا.
وفي ثوان تبخر في الهواء، كل ماتعلمناه عبر الدروس التي تلقيناها وإختفت في لمح البصر أكداس الكتب والمراجع العديدة التي إلتهمنها في سنين الدراسة، إذ لم يكن فيها مايضئ طريقنا في تلك اللحظة.
لكن محنتنا لم تطل إذ لم نكن وحدنا، وقد إندفع الرجل ذو الثياب الرثة نحو السائق الذي تسبب في الحادث، وكان على وشك أن يلوذ بالفرار، فأمسك به، ونزع مفتاح سيارته ثم نادى أحدنا وطلب منه أن يقف مع السائق الجاني لحين وصول الشرطة، بعد أن كلف آخر بإستدعائها، ثم عاد بسرعة للشارع ورفع الصبي، وكان حيا يتحرك، وأرقده داخل سيارتنا، وتناول منديلي وربط به الجرح، ثم أرقد الصبي بطريقة معينة على المقعد الخلفي، وطلب من الأم، أن تكف عن الصراخ، وهدأ من روعها، ثم إصطحبها وإبنتها وأمر السائق أن يتوجه إلى أقرب مستشفى بأسرع ما يمكن.
جرى كل هذا بسرعة وفي لمح البصر.. وعبر وقت وجيز من الزمن، ظل فيها الرجل الذي إستصغرنا من شأنه هو سيد الموقف بلا منازع.. هزمنا جميعا، وهزم معنا كل ما نمثله من نظريات وشكليات.. وإنتصر هو بخبرته العملية، ومعرفته للحياة، وكيفية التعامل مع ظروفها المستجدة وحوادثها الطارئة.
لقد كان صاحبنا صغيرا، وهامشيا، عندما كان الموقف نظريا وجدليا، ولكنه كبر فجأة، وبزنا جميعا عندما حان وقت العمل.
ورغم ذلك لم أمنع نفسي من إستحضار قول الشاعر:
ترى الرجل النحيل فتزدريه *** وفي أثوابه أسد هصور