الجمعة، 28 مارس 2008

من خواطر مسافر

قبل أن أهم بترديد آخر دعاء بالسلامة، نازلا من سلم الطائرة وأنا أقوم بأول تحليق لي في حياتي بين الأرض والسماء، لفت انتباهي شخص يكشف من تحت ملابسه عن قنبلة يدوية غير آبه بالنازلين من الطائرة، أسرعت إليه ونظراتي كلها على ما كشف فجأة من تحت جلبابه القصير، انتزعتها منه بكل ما أوتيت من قوة، وعيناي تكاد تذرفان، وشفتاي تتمتمان بدعاء صادق نابع من أعماق القلب، ولم أعر أي اهتمام للتحول الذي طرأ عليه . لأنه كان في نيتي أن أضايقه وألاصقه وأسد عليه طرائقه لأوثقه، لكنه كان أكثر وعيا بالموقف الذي فيه، فدفعني للخلف بشدة وهرب.. وضعت القنبلة اليدوية في حقيبتي واتجهت صوب أول مركز أمني أجده أمامي في أول مدينة أجنبية أزورها في حياتي. واقترب مني شاب يعمل في المطار. وبادرني بالقول : ((حين رأيتك يا سيدي تنحني لتنزع المتفجرة من ذلك الشخص دمعت عيناي لأنني تذكرت قريبا لي توفي في اواخر القرن الماضي بسبب مواجهته لأحد الإنتحاريين، وخفت أن تخطأ في إنتزاعها منه فتقع الكارثة)).
اجبته بوقار ((أعرف أني عرضت نفسي للخطر لكن الغيرة على الآخرين والحفاظ على النفوس المعصومة لا تسمحان للإنسان المسلم أن يفكر في نفسه وينسى اخوانه المسلمين.. انه الإثار يا أخي وهو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الدينية وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة والصبر على المشقة. قال تعالى : <<ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة>> من الآية 9 سورة الحشر. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية اي يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم ويبدأون بالناس قبلهم في حال احتياجهم الى ذلك... ويكفيني أن عملي الصغير هذا ذكرك بقريبك المتوفى عسى أن تدعو له بالرحمة والغفران)).
وأضاف الشاب يقول ((يبدو مما أقرأ وأسمع أن كثيرا من مناطق عالمنا الإسلامي يعيش على أحداث الإنفجارات والإغتيالات وقتل النفوس المعصومة بغير حق وباسم الدين)) وعقبت على كلامه : ((ان مسؤولية المسلمين - خاصة أهل الإختصاص منهم عظيمة وخطيرة تجاه الأمة المسلمة بتوعيتها بوجوب التربية الدينية ومعرفة الدين على الطريق الصحيح، وتفسير آيات حرمة قتل النفس المعصومة، واذكرك هنا ببعض هذه الآيات القرآنية الكريمة :
يقول تعالى : <<ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا>> الآية 33/ سورة الإسراء.
ويقول عز وجل : <<ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما>> الآية 93/ سورة النساء.
ويقول أيضا في محكم كتابه : <<... ولاتقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما. ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيرا>> من الآية 29 والآية 30/ سورة النساء.
إذن فمسؤولية أهل الإختصاص من العلماء والفقهاء غنية عظيمة ولا مفر منها تجاه الأقطار المسلمة وما أكثرها لإنقاد المسلمين من تشويه صورتهم وصورة الإسلام ومن هؤلاء المتوحشين الذين يقتلون الناس بلا سبب وبدم بارد وباسم الإسلام والإسلام منهم بريئ..
فالأرواح عندهم رخيصة، لأنهم مجرمين مهما قالوا ومهما ادعوا أنهم يجاهدون.. الإسلام أبداً لا يقبل قتل الأنفس المحرمة.. أو ارهابها وتهديدها.
وعلى المسلم أن لا يعبأ بهم لأن ميزانه الوحيد لقياس الأمور هو تقوى الله تعالى والعمل بما في كتابه وسنة نبيه.. وليس الإنخداع بما يردده هؤلاء القوم الذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم حتى صارت كالحجارة أو أشد حسب اللفظ القرآني.. نعم وليس الإنخداع بأنك بهذا العمل - الذي لا يقره الله ولا رسوله ولا الفطرة الإنسانية - ستعلو مرتبتك في الدار الأخرى وستتزوج الحور العين، فهذا خداع النفس الأمارة بالسوء)).
وأضاف الشاب : ((بسبب طول اقامتي في ديار الغرب أصبح من الصعب علي أن أتذكر عالما مسلما أو فقيها.. وأجدني اضطر أن اورد كلام الفيلسوف الغربي هو كارل ياسرزان حيث يقول : الإنسان في حالة غياب مبدأ أو عقيدة يعتنقها يجد نفسه تائها ضائعا وغيرها من حالات الوجود الحادة)).
وأدركت موقف الشاب الحرج وهو عاجز عن الإستشهاد بأقول وحكم مستوحاة من عقيدته الإسلامية، وأردت أن أخفف من حدة الحرج، فقلت : ((كلام الفيلسوف صحيح.. وتذكر يا أخي أن رسولنا صلى الله عليه وسلم أوصانا بأن نتحرى الحكمة أينما كانت.. ولكن نبدأ بالحكمة العظيمة الموجودة كنوزها في القرآن والسنة)).
اننا في الحقيقة بحاجة الى تنقية موارد مصادر ثقافتنا وفكرنا التي اختلطت اختلاطا مروعا يهدد بتصدع وتحول عظيم في الصميم حتى نحصل على فكر وثقافة صالحة لتغدية نمونا الطبيعي كيلا نتعرض لخطر التحول عن فطرتنا.
فالإسلام لم يعتمد في نشر عقيدته على حرب أو اكراه.. وكيف يكون ذلك والمولى عز وجل يقول في محكم كتابه : <<ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن>> الآية 125/ سورة النحل. ولم تقل الآية اقتلهم وفجرهم !.
<<لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي>> من الآية 256/ سورة البقرة.
<<إن هو إلا ذكر للعالمين. لمن شاء منكم أن يستقيم>> الآيتان 27 و 28/ سورة التكوير.
فالسلام هو الأصل في دعوة الإسلام والحرب استثناء لا يلجأ اليها الا عند الضرورة القصوى ولا تكون أبداً نية التوسع والإستعمار بل للدفاع عن النفس. <<وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين>> الآية 190/ سورة البقرة.
والمسلم ملزم في حروبه بالتسامح والتقوى والعدل ومنع الإعتداء والجور والظلم وقتل الأبرياء حتى تتحقق حرية الفكرة والعقيدة فيقبل الناس على رسالة السماء.
وأطرق الشاب خجلا وقال : ((انت محق يا أخي.. وسأشمر على ساعد الجد لأدرس حقائق ديني الخالدة، وأنا آسف لقصر الوقت، لأنني سأنصرف حالا للعمل)).
وهممت بالإنصراف بعد أن دعوت للشاب بالفلاح والتوفيق في الدنيا والآخرة، وتلقيت منه ارشادات للتنقل الى مركز الأمن، ثم الى حيث تقطن أسرتي المهاجرة.