الجمعة، 28 مارس 2008

من خواطر مسافر

قبل أن أهم بترديد آخر دعاء بالسلامة، نازلا من سلم الطائرة وأنا أقوم بأول تحليق لي في حياتي بين الأرض والسماء، لفت انتباهي شخص يكشف من تحت ملابسه عن قنبلة يدوية غير آبه بالنازلين من الطائرة، أسرعت إليه ونظراتي كلها على ما كشف فجأة من تحت جلبابه القصير، انتزعتها منه بكل ما أوتيت من قوة، وعيناي تكاد تذرفان، وشفتاي تتمتمان بدعاء صادق نابع من أعماق القلب، ولم أعر أي اهتمام للتحول الذي طرأ عليه . لأنه كان في نيتي أن أضايقه وألاصقه وأسد عليه طرائقه لأوثقه، لكنه كان أكثر وعيا بالموقف الذي فيه، فدفعني للخلف بشدة وهرب.. وضعت القنبلة اليدوية في حقيبتي واتجهت صوب أول مركز أمني أجده أمامي في أول مدينة أجنبية أزورها في حياتي. واقترب مني شاب يعمل في المطار. وبادرني بالقول : ((حين رأيتك يا سيدي تنحني لتنزع المتفجرة من ذلك الشخص دمعت عيناي لأنني تذكرت قريبا لي توفي في اواخر القرن الماضي بسبب مواجهته لأحد الإنتحاريين، وخفت أن تخطأ في إنتزاعها منه فتقع الكارثة)).
اجبته بوقار ((أعرف أني عرضت نفسي للخطر لكن الغيرة على الآخرين والحفاظ على النفوس المعصومة لا تسمحان للإنسان المسلم أن يفكر في نفسه وينسى اخوانه المسلمين.. انه الإثار يا أخي وهو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الدينية وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة والصبر على المشقة. قال تعالى : <<ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة>> من الآية 9 سورة الحشر. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية اي يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم ويبدأون بالناس قبلهم في حال احتياجهم الى ذلك... ويكفيني أن عملي الصغير هذا ذكرك بقريبك المتوفى عسى أن تدعو له بالرحمة والغفران)).
وأضاف الشاب يقول ((يبدو مما أقرأ وأسمع أن كثيرا من مناطق عالمنا الإسلامي يعيش على أحداث الإنفجارات والإغتيالات وقتل النفوس المعصومة بغير حق وباسم الدين)) وعقبت على كلامه : ((ان مسؤولية المسلمين - خاصة أهل الإختصاص منهم عظيمة وخطيرة تجاه الأمة المسلمة بتوعيتها بوجوب التربية الدينية ومعرفة الدين على الطريق الصحيح، وتفسير آيات حرمة قتل النفس المعصومة، واذكرك هنا ببعض هذه الآيات القرآنية الكريمة :
يقول تعالى : <<ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا>> الآية 33/ سورة الإسراء.
ويقول عز وجل : <<ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما>> الآية 93/ سورة النساء.
ويقول أيضا في محكم كتابه : <<... ولاتقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما. ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيرا>> من الآية 29 والآية 30/ سورة النساء.
إذن فمسؤولية أهل الإختصاص من العلماء والفقهاء غنية عظيمة ولا مفر منها تجاه الأقطار المسلمة وما أكثرها لإنقاد المسلمين من تشويه صورتهم وصورة الإسلام ومن هؤلاء المتوحشين الذين يقتلون الناس بلا سبب وبدم بارد وباسم الإسلام والإسلام منهم بريئ..
فالأرواح عندهم رخيصة، لأنهم مجرمين مهما قالوا ومهما ادعوا أنهم يجاهدون.. الإسلام أبداً لا يقبل قتل الأنفس المحرمة.. أو ارهابها وتهديدها.
وعلى المسلم أن لا يعبأ بهم لأن ميزانه الوحيد لقياس الأمور هو تقوى الله تعالى والعمل بما في كتابه وسنة نبيه.. وليس الإنخداع بما يردده هؤلاء القوم الذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم حتى صارت كالحجارة أو أشد حسب اللفظ القرآني.. نعم وليس الإنخداع بأنك بهذا العمل - الذي لا يقره الله ولا رسوله ولا الفطرة الإنسانية - ستعلو مرتبتك في الدار الأخرى وستتزوج الحور العين، فهذا خداع النفس الأمارة بالسوء)).
وأضاف الشاب : ((بسبب طول اقامتي في ديار الغرب أصبح من الصعب علي أن أتذكر عالما مسلما أو فقيها.. وأجدني اضطر أن اورد كلام الفيلسوف الغربي هو كارل ياسرزان حيث يقول : الإنسان في حالة غياب مبدأ أو عقيدة يعتنقها يجد نفسه تائها ضائعا وغيرها من حالات الوجود الحادة)).
وأدركت موقف الشاب الحرج وهو عاجز عن الإستشهاد بأقول وحكم مستوحاة من عقيدته الإسلامية، وأردت أن أخفف من حدة الحرج، فقلت : ((كلام الفيلسوف صحيح.. وتذكر يا أخي أن رسولنا صلى الله عليه وسلم أوصانا بأن نتحرى الحكمة أينما كانت.. ولكن نبدأ بالحكمة العظيمة الموجودة كنوزها في القرآن والسنة)).
اننا في الحقيقة بحاجة الى تنقية موارد مصادر ثقافتنا وفكرنا التي اختلطت اختلاطا مروعا يهدد بتصدع وتحول عظيم في الصميم حتى نحصل على فكر وثقافة صالحة لتغدية نمونا الطبيعي كيلا نتعرض لخطر التحول عن فطرتنا.
فالإسلام لم يعتمد في نشر عقيدته على حرب أو اكراه.. وكيف يكون ذلك والمولى عز وجل يقول في محكم كتابه : <<ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن>> الآية 125/ سورة النحل. ولم تقل الآية اقتلهم وفجرهم !.
<<لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي>> من الآية 256/ سورة البقرة.
<<إن هو إلا ذكر للعالمين. لمن شاء منكم أن يستقيم>> الآيتان 27 و 28/ سورة التكوير.
فالسلام هو الأصل في دعوة الإسلام والحرب استثناء لا يلجأ اليها الا عند الضرورة القصوى ولا تكون أبداً نية التوسع والإستعمار بل للدفاع عن النفس. <<وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين>> الآية 190/ سورة البقرة.
والمسلم ملزم في حروبه بالتسامح والتقوى والعدل ومنع الإعتداء والجور والظلم وقتل الأبرياء حتى تتحقق حرية الفكرة والعقيدة فيقبل الناس على رسالة السماء.
وأطرق الشاب خجلا وقال : ((انت محق يا أخي.. وسأشمر على ساعد الجد لأدرس حقائق ديني الخالدة، وأنا آسف لقصر الوقت، لأنني سأنصرف حالا للعمل)).
وهممت بالإنصراف بعد أن دعوت للشاب بالفلاح والتوفيق في الدنيا والآخرة، وتلقيت منه ارشادات للتنقل الى مركز الأمن، ثم الى حيث تقطن أسرتي المهاجرة.

الجمعة، 21 مارس 2008

مسألة مفهومة

يستغرب بعض المبحرين، مدونين وغير مدونين، أن يصل التمييز في المجتمع التدويني الى الإتحادات التدوينية العربية نفسها. ويقول هؤلاء : قد تكون ممارسة هذا التمييز على المواطنين في الدول المستبدة (صاحبة السلطة المطلقة) مفهومة وبصرف النظر عن الموافقة أو عدم الموافقة عليها. لكن ممارستها على المدونين أنفسهم فهي مسألة تظل غير مفهومة، وتحتاج الى تنبيه.. إذ المتعارف عليه أن الإفتراض يحتاج الى دليل صحته، وبالتالي : كيف يمكننا التمييز والحكم على شيء إفتراضي ؟!
لكننا، وبدون أن ننقب عن أسباب التمييز في المجتمع التدويني، نجد أن ممارسته ضد الإتحادات التدوينية غير الأعجمية مفهومة تماماً. فالخلفيات التي يأتي بها بعض المدونين بدافع الإستقطاب من جهة والرغبة في تقليص دائرة التدوين (بين جماعة أشخاص معروفة) الى أقصى حد ممكن، جعل الحديث يصل الى مرحلة المخططات فيما يخص تهميش وإقصاء المدونين العرب المستقلين حيث لم يعد ذلك سراً يجري فيه الحديث همساً.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن السؤال المطروح هو : من يقوم بالأعمال المستفزة التي يقوم بها المدونون العرب الآن، ومن أجل أن تبقى ((الإتحادات التدوينية)) نخبة مختارة داخل المجتمع التدويني ؟! والجواب : ليس هناك سوى المدونين أصحاب الخلفيات الحزبية وأمثالهم.
لذلك جاء في تقرير على لسان أحد خبراء التقنية المعلوماتية أن مواقع المدونات الحزبية والمؤسساتية والمهنية وأمثالها، يجب أن تستبعد قد الإمكان عن إضفائها شرعية مدونة أكثر من تعريفها التقني. إذ يتبين أن هذه المواقع برغماتية، وهدفها ليس التدوين السامي بمعناه الشامل.
وإذا عرف السبب أصبحت المسألة مفهومة..
أليس كذلك ؟!

الجمعة، 14 مارس 2008

حدث الهجرة النبوية

بالأمس القريب استقبل المسلمون السنة الهجرية الجديدة 1429 .
لكننا اليوم نجد أنفسنا مدعوين لتأمل حدث الهجرة وما يعنيه. وليس غريبا أن نتحدث في الأمر على هذا النحو، ونحن نعرف - وقد لاحظنا - التقصير الواضح وعدم الإهتمام بهذا الحدث، بما في ذلك السيرة النبوية تلك الرصيد التاريخي الأول الذي تستمد منه الأجيال المتلاحقة من ورثة النبوة وحملة مشاعل العقيدة زاد مسيرتها، وعناصر بقاءها، وأصول امتدادها.
فلم يعد الأمر يهزنا هز المناسبة العظيمة ! وأصبحنا نرى <<خير أمة أخرجت للناس>> مفقودة التربية الروحية، عاجزة عن التسلح بمفاهيم الإسلام الأصيلة، وغير قادرة على المواجهة والمناظرة بوجهة نظر اسلامية صحيحة قادرة على النظر الصحيح.
لن أتطاول في هذا الموضوع الى تحليل حدث الهجرة، لأن أهل الإختصاص في الشأن الديني، قد سبقوني الى تحليلها، تحليلا دقيقا متصلا شاملا.
وانما سأكتفي بأخد مقتطفات من أحداث الهجرة، ووضعها أمام القارئ للتأمل العقلي من الجانب الفكري، والتأمل الواقعي من الجانب الحسي.
وهذه الأحداث المختارة، تمثل تاريخ أمة - كما سيتبين لنا - استطاعت في ما بعد ارساء الدعائم الأولى للإسلام. وتكوين مجتمع إسلامي جديد.
وبعد هذا التمهيد الموجز، فلنشرع في التحليل :
نجح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والشرك والجهالة، وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة الى هذا الوطن.
ولم يكن معنى الهجرة إلا التضحية بالغالي والنفيس، واهدار المصالح، والنجاة، نحو مستقبل غير معلوم، مبهم.
وبدأ المسلمون يهاجرون، وهم يعرفون كل ذلك، والمشركون يحولون بينهم وبين خروجهم، لما كانوا يحسون من الخطر. لكن ومع هذا المنع خرج الصحابة أرسالا يتبع بعضهم بعض. ولم يبقى بمكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق وجماعة من الذين لم يستطيعوا الخروج (مكرهين). وقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج، وأعد ابو بكر جهازه. - زاد المعاد 2/52.
وشعر المشركون وعلى رأسهم قريش بتفاقم الوضع الذي كان يهدد كيانهم، فصاروا يبحثون عن أنجع الوسائل لدفع هذا الخطر، الذي مبعثه الوحيد هو حامل دعوة الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم.
وكانت الوسيلة والقرار الغاشم الذي أجمعوا عليه هو قتل النبي صلى الله عليه وسلم بعد سلسلة من الإقتراحات والحلول. وقد صمموا على تنفيذ هذا القرار فورا. - انظر ابن هشام 1/480،481،482.
ولما اتخد القرار الغاشم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم نزل إليه جبريل بوحي من ربه تبارك وتعالى، فأخبره بمؤامرة مشركي قريش، وأن الله أذن له في الخروج، وحدد له وقت الهجرة قائلا : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. - ابن هشام 1/482، زاد المعاد 2/52.
تقول عائشة رضي الله عنها : بينما نحن جلوس في بيت ابي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا، في ساعة لم يكن ياتينا فيها، وقال ابو بكر : فداء له ابي وامي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.
قالت : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : أخرج من عندك. فقال أبو بكر : انما هم أهلك، بابي أنت يا رسول الله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم. - صحيح البخاري، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه 1/553.
وبعد إبرام خطة الهجرة رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى بيته، ينتظر مجيء الليل.
أما أكابر قريش فقضوا نهارهم في الإعداد لتنفيذ الخطة المرسومة التي أبرموها بينهم، واختير لذلك احد عشر رئيسا من هؤلاء الأكابر.
قال ابن اسحاق : فلما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام، فيثبون عليه. - ابن هشام 1/482.
وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل، فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر، ولكن الله غالب على أمره، فقد فعل ما خاطب به تبارك وتعالى الرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد : <<وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون يمكر الله والله خير الماكرين>> (8 : 30).
ومع غاية استعداد قريش لتنفيذ خطتهم فقد فشلوا فشلا مبينا. ففي هذه الساعة الحرجة. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واخترق صفوفهم، وأخد حفنة من التراب فجعل يذره على رؤوسهم، وقد أخد الله أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو : <<وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون>> (39 : 9)، ومضى الى بيت ابي بكر، فخرجا من باب خلفي لدار ابي بكر ليلا حتى لحقا غار ثور في اتجاه اليمن. - نفس المصدر السابق.
وبقي المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر، فجاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم ببابه فقال : ما تنتظرون قالوا محمدا. قال خبتم وخسرتم، قد والله مر بكم، وذر على رؤوسكم التراب وانطلق لحاجته، قالوا والله ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم.
وغادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر 14 من النبوة الموافق 12/13 سبتمبر سنة 622م. - رحمة للعالمين 1/95، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 167.
ولما انتهيا الى الغار، كمنا فيه ثلاث أيام، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد. - انظر فتح الباري 7/336.
أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها افلات رسول الله صلى الله عليه وسلم صباح ليلة تنفيذ المؤامرة. فقررت في جلسة طارئة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين، كما قررت اعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما الى قريش حيّين أو ميّتين.
وحينئذ جدّ المطاردون في الطلب، وانتشروا في الجبال والوديان، والهضاب، لكن من دون جدوى وبغير عائدة.
وقد وصل المطاردون الى باب الغار، لكن الله غالب على امره، روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي، فإذا بأقدام القوم، فقلت يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. فقال : اسكت يا آبا بكر، اثنان الله ثالثها، وفي لفظ : ما ظنك يا آبا بكر باثنين الله ثالثها. - صحيح البخاري 1/516/558.
وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة.
وحين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وارتحل معهما عامر بن فهرية وكان يرعى عليهما منحة من غنم، يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث. وأخد بهم الدليل - عبد الله بن أريقط الليثي - وكان قد استاجراه من قبل ليؤمن لها راحلتيهما، وقد وعداه غار ثور بعد ثلاثة ليال براحلتيهما. وهو ماهر بالطريق.
وفي يوم الإثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة - وهي السنة الأولى من الهجرة - الموافق 23 سبتمبر 622م.
نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء. - روى ذلك البخاري عن عروة بن الزبير 1/554.
قال ابن القيم : وسمعت الرَّجَّةُ والتدبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيّوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي ينزل عليه : <<فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهيرا>> ( 66 : 4 ). - زاد المعاد 2/54.
وكانت المدينة كلها قد زحفت للإستقبال، وكان يوما مشهودا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها، وقد رأى اليهود صدق بشارة حبقوق النبي : إن الله جاء من التيمان، والقدوس من جبال فاران. - صحيفة حبقوق (3 : 3 ).
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام : الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. - هذا ما رواه ابن اسحاق انظر ابن هشام 1/494. وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان يوم الخامس - يوم الجمعة - ركب بأمر الله له، وأبو بكر ردفه، وأرسل الى بني النجار - أخواله فجاءوا متقلدين سيوفهم، فساروا نحو المدينة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد اليذي بي بطن الوادي، وكانوا مائة رجل.
وبعد الجمعة دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة - ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعبر عنها بالمدينة مختصرا - وكان يوما تاريخا أعر، فقد كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد والتقديس، وكانت بنات الأنصار تغني بهذه الأبيات فرحا وسروا. - صحيح البخاري 1/555.
أشـرق البدر علينا *** مـن ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا *** مـا دعــا لله داع
أيهـا المبعوث فينـا *** جئت بالامر المطاع
هذه مقتطفات موجزة لمجمل احداث الهجرة من كتاب يقع في 495 صفحة من القطع الكبير، وعنوانه : الرحيق المختوم من تأليف : صفي الرحمن المباركفوري، صادر عن دار الحديث القاهرة، وبتصرف.
ان الهجرة النبوية كانت نجاح للإسلام في إعلاء كلمته.. فلم يكن معناها هو التخلص من الفتنة والإستهزاء فحسب، بل كانت الهجرة مع هذا تعاونا على مجتمع جديد في بلد آمن. ولذلك أصبح فرضا على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد، ان يبذل جهده في تحصينه ورفعة شأنه.

الجمعة، 7 مارس 2008

لأجل سياسة سعرية في خدمة المواطنين

لابد أن المراقب من مسافة معينة لما يحصل في مدينة مراكش وكافة المدن المغربية والعربية وحتى العالمية قد لاحظ ذلك الإرتفاع الواضح في أسعار المواد الغدائية الأساسية. الأمر الذي يجعله يطرح عدة أسئلة أخدته لتحاليل عدة منها ما قارب الحقيقة ومنها ما جانب الصواب ولم يلامس الأسباب الفعلية لهذا الإرتفاع، ليبقى السؤال الأهم والتحليل الذي يجب أن يأخد النصيب الأول من الإهتمام هو ما الإجراءات الأساسية واللازمة للتخفيف من الأسعار بهدف تثبيتها والعمل على استقرارها. خدمة للمواطنين وحماية للإقتصاد وتطويره ودعمه؟! .
إن قضايا الأسعار يجب أن تستأثر وباهتمام كبير ومتزايد الحكومات والمؤسسات الإقتصادية في العالم لأنها تتصل وبعمق بجوهر العملية الإقتصادية، ولذلك على الدول متابعة حركة الأسعار العالمية وتحليل اتجاهاتها ودراسة الإجراءات والأحداث السعرية التي تقوم بها الدول وحساب احتمالات تأثيرها على اقتصاد كل منها واتخاد القرارات التي من شأنها تعزيز قدرتها في مواجهة تلك التأثيرات.
فالسياسة السعرية يجب أن تكون واضحة وتضع في مقدمة أهدافها خدمة المواطنين وتأمين توفير المواد والسلع والبضائع وخاصة تلك التي تتعامل بها شركات القطاع التجاري بأنسب الأسعار التي تلائم دخول المستهلكين حتى وإن اضطرت الدولة الى دعم بعض المواد الأساسية وعرضها بأسعار تقل بكثير عن الأسعار التي تباع بها في الأقطار المنتجة لها في العالم.
ومن هنا أرى أن أسعار السلع والخدمات الأساسية التي تهم المواطنين، لابد أولا من تحديد الدعم اللازم لها بتخفيف المبالغ لتغطية الخسائر السنوية الناجمة عن كلفتها بهدف تثبيت مستوى أسعارها واستقرارها. وكذا العمل على اقرار الأسس والضوابط المتعلقة بتنظيم السوق المحلي ووضع قواعد التنسيق بين الإنتاج الوطني والمستورد وتذليل كل المعوقات التي تعترض العملية الإستيرادية أثناء تنفيذها.
ثانيا : تنظيم السياسة التجارية ومتابعة تنفيذها بما يضمن حماية الإقتصاد وتطويره ومنع الإحتكار والتلاعب بأسعار السلع وتوفيرها للمواطنين بأسعار تتناسب ومستواهم المعاشي.
وبعيداً عن الظواهر الإعلامية، فليس هناك أي إجراء حقيقي أو سياسة تحترم الحقوق الإجتماعية والإقتصادية، للمواطنين! .
وكل ما نسمعه من وعود وإجراءات ليست إلا ذر للرماد في العيون. والدليل على ذلك هو أنه مع كل تسوق يومي، نجد سعراً جديداً وارتفاعاً في أثمنة المواد الأساسية! .
إن ما يقع في مراكش كباقي المدن المغربية والعربية من غلاء مرتفع في المعيشة اليومية، نقص في السياسة السعرية. وهي حقيقة لاتعالج في كل الأحوال واقع الحال وبالصورة المطلوبة.
وما هذه الورقة إلا فرصة للتذكير بالأوضاع التي يعيشها الفقراء والجائعون الجدد. وأن الدول العربية ومن بينها المغرب لم تف بالتزاماتها في ما يخص الحقوق الإجتماعية والإقتصادية للمواطنين، ولم تتبع سياسات ناجعة للحد من خطورة الإرتفاع المتزايد للأسعار.
كما أن جواب الحكومات عن غلاء المعيشة في نظر المواطن البسيط ليس هو التمادي في تفعيل الزيادات ولا الوعود المعسولة التي لاتفي بها بل تجسيد الموقف الفاعل في إيقاف ارتفاع تكاليف العيش، والتراجع عن الزيادات، ولأجل كرامة المواطن في عيش كريم.