الجمعة، 9 مارس 2007

تأملات بعد الظهيرة

ما أن يذكر أمامي العالم العربي اليوم حتى تتنازع فكري أنباء الصراعات وسياسة القوى العظمى والإتفاق أو الإختلاف في وجهات النظر ومحنة الفلسطينيين في الضفة الغربية والشعب العراقي ولبنان وأفغانستان. تلك هي الصورة التي تقترن بذهني حينما أفكر في تلك البقعة من العالم بإعتباري مهتم بأخبار هذا الوطن. إنه عالم واقعي مر تزداد صورته كثافة إذا جال المرء بفكره المجرد وعقله المتزن وأضاف إليها تقريرات المحلليين وإنطباعات الصحفيين.
لكن دعني أستحضر الذاكرة وأشحذ حواسي لأعود إلى أيام طفولتي في مراكش. تلك الأيام الحلوة التي عشتها تحت سماء لايخالط زرقتها أي لون آخر. إنني أرى الحياة البسيطة بين أحضان أزقة مراكش الضيقة ": لعب الصبا، نخيل متفرق هنا وهناك يسطع بخضرته يستهوي أبناء مراكش بشموخه، نساء يرتدون الجلاليب، ورجال محافضون، حلاقات جامع الفنا، وهناك روائح غريبة.. أتذكر الآن الطنجية المشهورة عند المراكشيين. أو الأكلة المفضلة عندهم.
ثم أقطع بسرعة ثلاثة عشرة سنة تلت تلك الفترة فتعود بي الذاكرة إلى المنطقة ذاتها إلى قلب مراكش ببهرجها ومرجها ويطبق على الجو ستار من السكينة والصمت تحت حر الصيف بعد الظهيرة، سرعان مايتلاشى مع تقدم النهار ومن لحظة إلى أخرى تتغير الضياء بلون المساء مساء مراكش الأصيل صفراء وبيضاء وأرجوانية.
كنا نقضي إجازتنا وأردنا بعد أن سئمنا شغب الدراسة إلى جانب المذاكرة المتواصلة أن نقوم بزيارة المآثر التاريخية للمدينة والتمتع بها وفسحة تجوال عابرة لأقطار مراكش. وكان أكبر حافز لنا على هذه الفكرة هو إستحضار أمجاد الأجداد ومعالمهم الباقية مدى محافضتنا عليها، لقد خرجنا في هذه الجولة بمشكلات كبرى وتمدد حواراتنا لتشمل الأصيل والمعاصر وبين الحفاظ على ماضي الأجداد أو إقصاءه هذه النتيجة التي تولدت عن مشكل إندثار وإختفاء عدد من معالم مراكش التي كانت تعرف به. وقد حاول أحد المختصين في هذا المجال أن يحدد لنا عدد الأبواب - أبواب مراكش - وكان الإختلاف، فتراوحت بين 7 و 25 باب. ولعل مرد ذلك إلى عدم التمييز بين الأبواب الداخلية والخارجية، وإلى إختفاء عدد كبير منها كباب تاغزوت، باب مسوفة، باب الراحة، باب نفيس، باب الصالحة.. وحل المساء وقضينا الليلة تجمعنا جلسة شاي، وإعادة شريط الجولة، وتساءل أحدنا عن الجدوى من وراء التطرق لهذه المعالم والمآثر والتي إندثر معضمها!. إلا أنني أرى بأن هذا هو دور التاريخ، فهو يحفظ لنا ما اختفى أو مافات لنحفظه نحن بدورنا، حماية له من الضياع في بحور النسيان والتهميش.
وأسوء الحظ أننا لم نؤدي دور الحماية وهكذا ترى مراكش بدأت تفقد ملامحها ورمزيتها وهويتها وسحرها الجميل.. ينتابني التحسر حين أمر على بعض شوارع مراكش وأزقتها وأتذكر أن هناك كانت قلاع وحصون في عهد ما وهنا تأسست جامعة كذا في عهد كذا. وآخر مكافأة عظيمة خفقت لها القلوب المعلمة التاريخية الكبرى جامعة ابن يوسف التي ألقت حتفها الصيف الماضي، وإني أبكي سوء حظ هذه المدينة الحمراء التي تغيرت سماء مآثرها إلى الرمادي والأسود .
إن المرء يعتز حين يشاهد ماضي أجداده ويحفظه بجميع الوسائل حتى لا يغرق في بحور الأزمان. والعكس يشاهده أبناء مراكش وجيشه مسلح لتدمير معالم بلدته وتهوين قواعدها وطمس حضارتها تحت صمت رهيب. ساعتها أدركت أن المعركة ستكون خاسرة، لأن جيشنا لايعلم أنه يرفق بنا كي يقسو علينا ولأن ضميره الذي يتحدث عن السياحة في أرض مراكش عرضة لأمراض الجيش الآخر ومن في قلوبهم مرض والتي تسري في جيل مراكش الجديد. إنني مازلت أتمثل هذه الجولة بتساؤلاتها ونتائجها الحية في مخيلتي.
وسرعان ماتتبخر ذكريات الأمس الحلوة وتتبدد حينما أفكر في واقع اليوم: في مراكش دائما وحينما أتذكر الدعوة التي توصلت بها وجولة جديدة مرة أخرى لإستطلاع آخر عن معالم مدينتنا. وما الذي سأحضره بهذه المناسبة.
وماذا عن غدي: آه الجمعة .. ويوم الأوراق المتضاربة. سأقرر موضوعا ذا أبعاد عالمية. ولما لاتكن جولة الأمس.. سأصب عليها كل اهتمامي وأوليها فكري حتى الصباح. ولكن مهما استغرق مني التفكير فلن أنس أني أعده لقرائي الذين سيقرأونه غدا في المدونة.