الجمعة، 3 نوفمبر 2006

خطأ الحكم بالمظاهر

كنا أربعة من طلاب الثانوية نستقل عربية أجرة، ذات يوم حار من أيام صيف مراكش القائض، عندما أشار أحد المارة للسائق الذي توقف وفتح باب السيارة ليدلف للداخل، ويأخد مكانه بجانبنا، رجل من العامة رث الثياب باليها، نحيل الجسم، معروق اليدين، تفوح من قميصه رائحة التراب المختلط بالعرق، أما العمامة التي يلبسها، فقد أكل عليها الدهر وشرب وطمس الزمن لونها الأصلي فاستحالت إلى لون أحمر داكن، ولم يكن حذاؤه بأحسن حال.
ولولا أن العربة كانت أجرة عامة، لكان وجود هذا الرجل غريبا بيننا، لاسيما وقد كان الزملاء في ملابس أوربية أنيقة تفوح منها روائح العطور الراقية.. إستأنفت السيارة سيرها وواصلنا ما إنقطع من حديثنا، وكان شتاتا من السياسة والفلسفة والأدب، فمن الكلاسيكية إلى وجود الله مرورا بآخر مستجدات عالم الإنترنت !.
وقد ظل رفيقنا-كما كان متوقعا- صامتا، إذ لم يكن في مقدوره أن يشارك في مثل هذه الأحاديث والتي بدت له-كما يخيل لي- ألغزا معقدة وطلاسيم صعبة الفهم، ولم أستطع والحق يقال أن أحول دون شعور طاغ بالشفقة تملكني أزاء الرجل. وتساءلت في نفسي، كم هو محروم هذا الإنسان، وهو بعيد هكذا عن عوالمنا الجميلة المزدانة بما تلقيناه وإكتسبناه من ضروب الثقافة والفكر في مجالات المعرفة الممنهجة في تعليمنا والترات الإنساني.. ترى كيف يحسب مثل هذا الرجل معاصرا في القرن الحادي والعشرين ، وهو يعيش على هوامشه، كيف يتفق ذلك وهو لم يسمع بسارتر وديكارت ولم يقرأ عن إبن خلدون ولم يقتني ديوانا للمتنبي؟.
وبينما أنا غارق في تأملاتي تلك، إذا بي أنتبه فجأة على صوت صرير، وإرتطام جسم بأرضية الشارع الصلبة، وتوقفت السيارة بغثة لنرى مشهدا مزعجا.. كانت السيارة التي تتقدمنا قد أنحرفت عن الطريق بعد أن صدمت بعنف صبيا صغيرا هوى إلى الأرض والدماء تسيل من رأسه، وعلى الجانب الآخر من الشارع، وقفت إمرأة وبنت صغيرة تولولان وتصرخان في هستريا وعصبية. هبطنا من السيارة بسرعة لنكتشف أن الصبي حاول عبور الشارع قبل أمه وأخته، فدهسته السيارة المسرعة.
تجمع أربعتنا حول الصبي الملقى على الأرض، ومرت لحظات رهيبة حرنا فيها في أمرنا، وكيف نتصرف.. كان الفعل الدرامي مفاجأة لنا، وثم في سرعة ولم يكن بمسرح الحادث سوانا، وظللنا نتبادل النظرات الحيرى، دون أن نعرف ماذا نفعل، وصراخ الأم يمزق الفضاء من حولنا، كما أن مشهد الدماء الغزيرة وهي تنزف من الصبي كان مشهدا مروعا بالنسبة لنا.. وتبينا أنها المرة الأولى التي نجد فيها أنفسنا وجها لوجه مع موقف صعب كهذا.
وفي ثوان تبخر في الهواء، كل ماتعلمناه عبر الدروس التي تلقيناها وإختفت في لمح البصر أكداس الكتب والمراجع العديدة التي إلتهمنها في سنين الدراسة، إذ لم يكن فيها مايضئ طريقنا في تلك اللحظة.
لكن محنتنا لم تطل إذ لم نكن وحدنا، وقد إندفع الرجل ذو الثياب الرثة نحو السائق الذي تسبب في الحادث، وكان على وشك أن يلوذ بالفرار، فأمسك به، ونزع مفتاح سيارته ثم نادى أحدنا وطلب منه أن يقف مع السائق الجاني لحين وصول الشرطة، بعد أن كلف آخر بإستدعائها، ثم عاد بسرعة للشارع ورفع الصبي، وكان حيا يتحرك، وأرقده داخل سيارتنا، وتناول منديلي وربط به الجرح، ثم أرقد الصبي بطريقة معينة على المقعد الخلفي، وطلب من الأم، أن تكف عن الصراخ، وهدأ من روعها، ثم إصطحبها وإبنتها وأمر السائق أن يتوجه إلى أقرب مستشفى بأسرع ما يمكن.
جرى كل هذا بسرعة وفي لمح البصر.. وعبر وقت وجيز من الزمن، ظل فيها الرجل الذي إستصغرنا من شأنه هو سيد الموقف بلا منازع.. هزمنا جميعا، وهزم معنا كل ما نمثله من نظريات وشكليات.. وإنتصر هو بخبرته العملية، ومعرفته للحياة، وكيفية التعامل مع ظروفها المستجدة وحوادثها الطارئة.
لقد كان صاحبنا صغيرا، وهامشيا، عندما كان الموقف نظريا وجدليا، ولكنه كبر فجأة، وبزنا جميعا عندما حان وقت العمل.
ورغم ذلك لم أمنع نفسي من إستحضار قول الشاعر:
ترى الرجل النحيل فتزدريه *** وفي أثوابه أسد هصور