الجمعة، 14 مارس 2008

حدث الهجرة النبوية

بالأمس القريب استقبل المسلمون السنة الهجرية الجديدة 1429 .
لكننا اليوم نجد أنفسنا مدعوين لتأمل حدث الهجرة وما يعنيه. وليس غريبا أن نتحدث في الأمر على هذا النحو، ونحن نعرف - وقد لاحظنا - التقصير الواضح وعدم الإهتمام بهذا الحدث، بما في ذلك السيرة النبوية تلك الرصيد التاريخي الأول الذي تستمد منه الأجيال المتلاحقة من ورثة النبوة وحملة مشاعل العقيدة زاد مسيرتها، وعناصر بقاءها، وأصول امتدادها.
فلم يعد الأمر يهزنا هز المناسبة العظيمة ! وأصبحنا نرى <<خير أمة أخرجت للناس>> مفقودة التربية الروحية، عاجزة عن التسلح بمفاهيم الإسلام الأصيلة، وغير قادرة على المواجهة والمناظرة بوجهة نظر اسلامية صحيحة قادرة على النظر الصحيح.
لن أتطاول في هذا الموضوع الى تحليل حدث الهجرة، لأن أهل الإختصاص في الشأن الديني، قد سبقوني الى تحليلها، تحليلا دقيقا متصلا شاملا.
وانما سأكتفي بأخد مقتطفات من أحداث الهجرة، ووضعها أمام القارئ للتأمل العقلي من الجانب الفكري، والتأمل الواقعي من الجانب الحسي.
وهذه الأحداث المختارة، تمثل تاريخ أمة - كما سيتبين لنا - استطاعت في ما بعد ارساء الدعائم الأولى للإسلام. وتكوين مجتمع إسلامي جديد.
وبعد هذا التمهيد الموجز، فلنشرع في التحليل :
نجح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والشرك والجهالة، وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة الى هذا الوطن.
ولم يكن معنى الهجرة إلا التضحية بالغالي والنفيس، واهدار المصالح، والنجاة، نحو مستقبل غير معلوم، مبهم.
وبدأ المسلمون يهاجرون، وهم يعرفون كل ذلك، والمشركون يحولون بينهم وبين خروجهم، لما كانوا يحسون من الخطر. لكن ومع هذا المنع خرج الصحابة أرسالا يتبع بعضهم بعض. ولم يبقى بمكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق وجماعة من الذين لم يستطيعوا الخروج (مكرهين). وقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج، وأعد ابو بكر جهازه. - زاد المعاد 2/52.
وشعر المشركون وعلى رأسهم قريش بتفاقم الوضع الذي كان يهدد كيانهم، فصاروا يبحثون عن أنجع الوسائل لدفع هذا الخطر، الذي مبعثه الوحيد هو حامل دعوة الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم.
وكانت الوسيلة والقرار الغاشم الذي أجمعوا عليه هو قتل النبي صلى الله عليه وسلم بعد سلسلة من الإقتراحات والحلول. وقد صمموا على تنفيذ هذا القرار فورا. - انظر ابن هشام 1/480،481،482.
ولما اتخد القرار الغاشم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم نزل إليه جبريل بوحي من ربه تبارك وتعالى، فأخبره بمؤامرة مشركي قريش، وأن الله أذن له في الخروج، وحدد له وقت الهجرة قائلا : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. - ابن هشام 1/482، زاد المعاد 2/52.
تقول عائشة رضي الله عنها : بينما نحن جلوس في بيت ابي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا، في ساعة لم يكن ياتينا فيها، وقال ابو بكر : فداء له ابي وامي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.
قالت : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : أخرج من عندك. فقال أبو بكر : انما هم أهلك، بابي أنت يا رسول الله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم. - صحيح البخاري، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه 1/553.
وبعد إبرام خطة الهجرة رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى بيته، ينتظر مجيء الليل.
أما أكابر قريش فقضوا نهارهم في الإعداد لتنفيذ الخطة المرسومة التي أبرموها بينهم، واختير لذلك احد عشر رئيسا من هؤلاء الأكابر.
قال ابن اسحاق : فلما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام، فيثبون عليه. - ابن هشام 1/482.
وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل، فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر، ولكن الله غالب على أمره، فقد فعل ما خاطب به تبارك وتعالى الرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد : <<وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون يمكر الله والله خير الماكرين>> (8 : 30).
ومع غاية استعداد قريش لتنفيذ خطتهم فقد فشلوا فشلا مبينا. ففي هذه الساعة الحرجة. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واخترق صفوفهم، وأخد حفنة من التراب فجعل يذره على رؤوسهم، وقد أخد الله أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو : <<وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون>> (39 : 9)، ومضى الى بيت ابي بكر، فخرجا من باب خلفي لدار ابي بكر ليلا حتى لحقا غار ثور في اتجاه اليمن. - نفس المصدر السابق.
وبقي المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر، فجاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم ببابه فقال : ما تنتظرون قالوا محمدا. قال خبتم وخسرتم، قد والله مر بكم، وذر على رؤوسكم التراب وانطلق لحاجته، قالوا والله ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم.
وغادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر 14 من النبوة الموافق 12/13 سبتمبر سنة 622م. - رحمة للعالمين 1/95، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 167.
ولما انتهيا الى الغار، كمنا فيه ثلاث أيام، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد. - انظر فتح الباري 7/336.
أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها افلات رسول الله صلى الله عليه وسلم صباح ليلة تنفيذ المؤامرة. فقررت في جلسة طارئة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين، كما قررت اعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما الى قريش حيّين أو ميّتين.
وحينئذ جدّ المطاردون في الطلب، وانتشروا في الجبال والوديان، والهضاب، لكن من دون جدوى وبغير عائدة.
وقد وصل المطاردون الى باب الغار، لكن الله غالب على امره، روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي، فإذا بأقدام القوم، فقلت يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. فقال : اسكت يا آبا بكر، اثنان الله ثالثها، وفي لفظ : ما ظنك يا آبا بكر باثنين الله ثالثها. - صحيح البخاري 1/516/558.
وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة.
وحين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وارتحل معهما عامر بن فهرية وكان يرعى عليهما منحة من غنم، يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث. وأخد بهم الدليل - عبد الله بن أريقط الليثي - وكان قد استاجراه من قبل ليؤمن لها راحلتيهما، وقد وعداه غار ثور بعد ثلاثة ليال براحلتيهما. وهو ماهر بالطريق.
وفي يوم الإثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة - وهي السنة الأولى من الهجرة - الموافق 23 سبتمبر 622م.
نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء. - روى ذلك البخاري عن عروة بن الزبير 1/554.
قال ابن القيم : وسمعت الرَّجَّةُ والتدبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيّوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي ينزل عليه : <<فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهيرا>> ( 66 : 4 ). - زاد المعاد 2/54.
وكانت المدينة كلها قد زحفت للإستقبال، وكان يوما مشهودا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها، وقد رأى اليهود صدق بشارة حبقوق النبي : إن الله جاء من التيمان، والقدوس من جبال فاران. - صحيفة حبقوق (3 : 3 ).
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام : الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. - هذا ما رواه ابن اسحاق انظر ابن هشام 1/494. وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان يوم الخامس - يوم الجمعة - ركب بأمر الله له، وأبو بكر ردفه، وأرسل الى بني النجار - أخواله فجاءوا متقلدين سيوفهم، فساروا نحو المدينة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد اليذي بي بطن الوادي، وكانوا مائة رجل.
وبعد الجمعة دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة - ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعبر عنها بالمدينة مختصرا - وكان يوما تاريخا أعر، فقد كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد والتقديس، وكانت بنات الأنصار تغني بهذه الأبيات فرحا وسروا. - صحيح البخاري 1/555.
أشـرق البدر علينا *** مـن ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا *** مـا دعــا لله داع
أيهـا المبعوث فينـا *** جئت بالامر المطاع
هذه مقتطفات موجزة لمجمل احداث الهجرة من كتاب يقع في 495 صفحة من القطع الكبير، وعنوانه : الرحيق المختوم من تأليف : صفي الرحمن المباركفوري، صادر عن دار الحديث القاهرة، وبتصرف.
ان الهجرة النبوية كانت نجاح للإسلام في إعلاء كلمته.. فلم يكن معناها هو التخلص من الفتنة والإستهزاء فحسب، بل كانت الهجرة مع هذا تعاونا على مجتمع جديد في بلد آمن. ولذلك أصبح فرضا على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد، ان يبذل جهده في تحصينه ورفعة شأنه.