الجمعة، 11 أبريل 2008

تجربة مع شبكة عالمية

فترة طويلة من صور شبابي لم أبتعد خلالها عن هذه الشبكة العنكبوتية... انها تلك السنوات السّمان التي فصلت بين دراستي الثانوية، ثم تكويني العالي في احدى الكليات الجامعية.
داخل أسوارها فرضت علىّ القيود، فتنتظم ساعات النهار في تحديد صارم بين المحاضرات والحصص التوجيهية ثم حصص استذكار ذاتية، فأقبل على الكتب والمراجع المتعلقة بتخصصي ولا أتعداها..
الى أن قادتني اهتماماتي الى ((الإنترنت))، استحوذت على وقتي الفارغ، على لبّي، تفيض بثراء مذهل فأجد جميع ما يمت الى الوجدان البشري بصلة، من سياسة وإقتصاد وأدب وفن وفكر وعقائد... أبحر الى عالم أكثر من واقعي وأنتقل عبر الزمن، بل وأتعرف أيضا على آخر المستجدات العالمية في شتى المجالت وقبل وصولها الى الآخرين خارجها، إنها ظاهرة وثيقة الصلة بالمجتمعات البشرية...
إلا أن السلوك البشري للإنسان الفرد كان أبرز ما أثار اهتماماتي فيها، ولا غروا ! فقد كنت أتلمس التفسيرات لما كان يعتري سلوكي الشخصي من تصدع بين أهداف تتوه بي الى خيالات التمني، وبين مسالك من واقع واضح الأبعاد، إلا أن النفس عازفة عن التسلح بهمة، فتقتحم الطريق اليها.
ثم إن سلوك الفرد كان حجر الأساس الذي قامت عليه الإنترنت... المنطق الذي مهد لها أن تتهيأ بتطبيقاتها التقنية لإحتواء مجالات الإنجاز البشري جميعا.
لذا فإن التشعبات الخوارزمية للإنترنت - وهو مفهوم عند أهل التقنية المعلوماتية - لتحتوي على النوازع البشرية جميعا، في تركيز أيّما تركيز... ولكن مع اختلافات جوهرية من حيث التركيب، وإن كانت هذ النوازع في أغلبها لا تخرج عن نطاق العمل الإقتصادي أو ما يُصطلح عليه {التجارة الإلكترونية}، وهذا بطبيعة الحال متناقض مع ثقافة العرب المعلوماتية التي لازالت تعتبر الإنترنت مجرد مقهى للدردشة وساع للبريد، وهنا يجب علينا اسقاط هذه الفكرة بتغيير أو تبديل، وأن نتمسك بمفهومها الأصلي في توفير المعلومات والآراء والخبرات.. !
بهرتني الإنترنت، فأتلمس قراءة كل ما يمت اليها بصلة... قريبة كانت أم بعيدة، وتتردد في قراءاتي لها وعنها الإشارة مرة بعد أخرى الى السلبية والإيجابية فيها... قيل إن كان المستخدم أو المبحر الذي يحركها في ضوء من تفاعلاته، وتصويراً حياً لضميره الذي اختار أن يشارك فيها من بعد... ويستشف معالمها وهي ببعد، انه يحاول أن يحدد لها أبعادا، كما هي - الإنترنت - تفعل بالتحقق والمسح والتمييز وغيرها من التفاعلات ترجع في الأصل الى المستخدم نفسه أو فريق عمل، فتكون الإنترنت بهذا التفسير صروح من نظريات وحقائق ملموسة في فراغ.
وربما يتبادر الى الذهن - في ضوء ما أقول - أن الخامة غزيرة الثراء التي بثت بها الينا الإنترنت في صفحاتها المثيرة، هي التي دفعت المستخدم الى تحديد معالم النظريات والحقائق الملموسة التي أصبحت تنسب اليها...
ولكن ما أبعد ذلك عن الحقيقة !
على النقيض من كلامنا ! تطل علينا الإنترنت بنظرياتها من علياء ثقافة فكرية شامخة، فتثقل السطور بفيض من تعليقات، وكأنها تسعى الى اغراقنا في خضم من تيارات المعرفة جميعا.
في حين ظل المستخدم حريصا كل الحرص على ألا يستحضر من ذخائر الفكر - رغم ما عُرف عنه من سعة اطلاع - ما هو حريّ بأن يدعم به تفاعلاته... مكتفيا بأن يتناول الحالة تلوى الأخرى أو لنقل صفحة وأخرى، فيبدأ إبحاره باهتماماته الأولى - فيسجل ملاحظاته عنها في أسلوب رشيق دقيق، إن كان ملتزما كل الإلتزام بصرامة تقصٍ سعيا الى تعليل..
ورويداً، بعد عناء ما بعده عناء، فإنا نراه يتحول.. فيرقى الدرج من الخاص الى العام، أي من الإستفادة الى الإفادة بنشره للمعلومات والآراء والخبرات على الشبكة نفسها، إذ يتبين له من خلال ما يعتمل في خصوصية وجدّ أن الفرد من مشاعر وأحاسيس، انها انما روافد من تيارات وجدانية هي من صميم الحياة البشرية جمعاء، فكأنما الإنترنت مرآة عاكسة لها.
الإنترنت هي الرائدة التي تحدد، بصرامة المستخدم الصالح الجاد، المعالم البيّنة للنوازع البشرية... ما كانت تقنياتها بيّنة على أهل المعرفة، إلا أنهم تناولوها، كل من منطقه الخاص، تشخيصا لأغراض المصالح العامة وليس غوصا الى أغراض ذاتية، أما المستخدم العادي فقد أقبل عليها وكأنها طعام غدائي، يزيد الإحساس بالجوع.
ومثله في ذلك المستخدم السلبي... انجذب الى تصوير نزعاته، فإذا معلوماته وآراءه وخبراته تغوص، دون أن يكون قد سعى، الى أغوار المآسي المتربصة بالمصير البشري جميعا...
تناولي للموضوع باستنتاجات فرضية الى نظريات محدد - بتحليل - يقرر أن {الإنترنت} هي أروع ما قد سطر الإنسان في تاريخه !
لكأنها الدعوة الملحة فأقتحم عالمه ذلك السحري، ولكني أتهيب الإقدام... حسبي قراءاتي التقليدية، فإنها بحر زاخر، ولن يتسع بي الوقت فأستوعب ما أعتقد أنه يجب علي أن أفعل... ثم حسبي تلك الكتب والمراجع التي أتحول إليها، ترويحا للنفس بعد عناء، حفلت بكل اهتماماتي وأفكاري...
ثم حسبي الشبكة العالمية للمعلومات - الإنترنت، وتلك المؤلفات التي تتناول تقنياتها بعرض أو تحليل... ومن خلالها طبعاً... ما أكاد أقع على جديد إلا وسارعت اليه، فأطرح كتبي التقليدية ومراجع اختصاصي، وكأنها كمّ مُهمَل... فإذا ما فرغت عدت إليها، يقضني ضميري وأنا أرى دراساتي تخلفت عما كنت قررت لها من برامج محدد بمواقيت.
ثم ان شبكة الإنترنت تلك الخالدة - كما قيل - تطل علي من حاسوبي أو هاتفي الذي أطوف به أينما تواجدت، فتهولني ضخامتها... بحسب تقديرات مجلة (ذي إيكونوميست)، وصل حجم محتوى شبكة الإنترنت من النصوص والمواد المرئية والمسموعة وغيرها أكثر من 256 تيرا بايت (تيرا بايت = مليار جيجا بايت).. ! فما شأني بمشاكل إفتراضية وهمية.. تقلبت حياة أناس انتموا لعائلة اخترع لها كاتب اسما - الإنترنت - لا شك أنه من صنع الخيال.
لم يكن يعنيني وقتئد من مساحات الإنترنت الشاسعة إلا حقيقة الحقائق... وأعني بها المعلومات والآراء والخبرات !
ويخيل الى أن قد نجحت في التغلب على تلك النزعة التي كاد يقودني اليها انبهاري بالإنترنت.
ولكني كنت أمر بمرحلة اجتذبت خلالها الى الإمساك بالقلم، فتنشر لي عبر الشبكة مقالات من دفتر التدوين، وعن المال والأعمال، ثم أخرى عن فن المحادثة وفن التصوير وبعض الخدمات الفردية المجانية، فيعرض علي فجأة صديق خبير معلوماتي، وكان معنيا بمشروع ضخم ربحي ما كان يسميه ((بالأد سنس)) بأن أهتم بالمشاريع الربحية الإلكترونية، على غرار اهتمامي بما أسميته : ((المعلومات والآراء والخبرات)) !
محاولة لم يكتب لها أن تتم، بل ما كدت أخطو نحوها بخطوات حتى تراجعت، فإنها - الإنترنت - من البحور الفياضة باحداث... صحيح أني أطرحتها جانبا حين تراجعت، ولكني كنت أقبلت عليها حين أزعمت ! فكيف سمحت لنفسي... بينما تملكني تخادل عن كتبي ومراجعي التقليدية، وقد قيل عن هذا ما قيل !
ورغم ذلك فإني أتهيب الإقدام... يركبني التردد... أحجم ثم تراودني نواخسي من همة، ولكني أعود فارجئ بعد اعتزام.
وفي مكتبي من المكان الذي تعودت أن أتردد إليه، تمتد أصابعي فجاة فتضغط على الملمس، نقرات معتادة، ويتم الإتصال.. الإتصال بالإنترنت، لكني أضم إليها كتبي ومراجعي المجاورة للحاسوب الثابت هي الأخرى... ((وأنا أردد : الإنترنت وسيلة حضارية تنطلق من عالم الفكر والمال)). وكانت تجربة.. وأي تجربة !